31 Jul 2013

يوميات فنزويلية : بلاد بلا موعد



كاراكاس ٢٦ يوليو ٢٠١٣
الطقس: مشمس ثم غائم ثم ماطر ثم غائم
درجة الحرارة: ما بين ٢٢ و٢٦ درجة مئوية


مفهوم "الموعد" في فنزويلا يختلف تماماً عن مفهوم الموعد في معظم ثقافات وبلدان العالم، ربما لأنها بلد كاريبي أهله لا يحبون الالتزام، ويعشقون ملذات الحياة

في أيامي الأولى هنا أذكر أن زميلاً صحفياً دعاني إلى العشاء من باب الترحيب بي وتعريفي بأسرته ومساعدتي في أي شيء قد أحتاجه. حان وقت العشاء وانتظرت في المطعم. تأخر فاتصلت به. لا يرد. أرسلت له رسائل نصية. لا يرد. مرت ساعتان وجاء النادل يلح بأن علي أن أطلب شيئاً لأن المطبخ سوف يغلق. فطلبت الطعام ودفعت. وهو لا يرد

بعد حوالي خمسة أيام حاولت من جديد الاتصال به. قلت لنفسي ربما حصل له شيء طارئ. فرد. وأول كلمة قالها كانت: أين أنت يا ديمة؟ ما أخبارك؟ 
فاستغربت: أين أنا؟ بل أين أنت؟
فاستطرد: يجب أن نلتقي للعشاء يوماً ما
فاستغربت أكثر .. وحتى اليوم لم يخبرني لم لم يأت إلى العشاء الموعود
وطبعاً لم أرتبط ثانية بأي عشاء معه

كان درساً مفيداً جداً لقادم الأيام في فنزويلا

مثلاً كان عندي موعد عند الطبيب. وما أدراك ما الموعد عند الطبيب؟

كتب لي رسالة: تعالي في الحادية عشرة ظهراً
فوافقت لكني أخبرته أني قد أتأخر لأن لدي اجتماع عمل حتى العاشرة والنصف في حي بعيد عن العيادة، في شرقي كاراكاس

وصلت اجتماعي في العاشرة تماماً. لاحظت بعض السحب الناصعة البياض في السماء، لكن الشمس كانت ساطعة

طبعاً الاجتماع بدأ متأخراً لأن صاحبة "الموعد" ادعت أنني لم أؤكد لها الاجتماع! وبالتالي لم ينته حتى الحادية عشرة إلا ربعاً تقريباً، فكتبت للطبيب أبلغه بتأخيري وأني في طريقي

وما أدراك ما الطريق؟
الطريق لولا السيارات في كل مكان كان يمكن أن يستغرق ربع ساعة، لكنه استغرق أكثر من ساعة وثلث

عندما وصلت العيادة في حي يقع غربي كاراكاس تيقنت أن المطر لا ينوي زيارتنا اليوم، فالسماء تبدو أنقى وأكثر زرقة مما كانت في الصباح

حي سانتا مونيكا غربي كاراكاس، في منتصف النهار
سلمت على الموجودين في صالة الانتظار وسألت: هل هناك من ينتظر دوره للدكتور رينيه؟
فرد علي شخص واحد، فسألت من جديد: وهل هناك مريض مع الدكتور الآن؟
فرد الشخص: نعم .. من حوالي ساعة أو أكثر
فقلت لنفسي إن الانتظار لن يطول.. لأن المريض سيخرج قريباً وسيدخل الشخص الآخر ، وبعدها يأتي دوري . حظي سعيد اليوم

بعد ٢٠ دقيقة خرج الدكتور فسلم على كل منا بحرارة ثم قال: أنا جوعان. سأتناول بعض الطعام وأعود

واختفى

المهم أنني دخلت عند الطبيب أخيراً في الساعة الثانية بعد الظهر، أي بعد "موعدي" بثلاث ساعات .. ولم أخرج حتى الثالثة وخمس وعشرين دقيقة

تذكرت تجربتي في أبو ظبي. كنت متأخرة على الموعد مرة واتصلت كي أخبر العيادة فقالوا لي: سندخلك ريثما يتأخر مريض آخر

حسناً. لا بأس عندي فأنا معتادة على الانتظار في فنزويلا. أدخلوني بعد انتظار بسيط لم يتجاوز ٣٠ دقيقة. فاستقبلتني الطبيبة بنظرات مريبة وقالت: موعدك ١٥ دقيقة فقط فكيف تتأخرين ١٠ دقائق؟ خربطت لي كل مواعيد اليوم

شعرت بالإحراج لكني استغربت لهجتها واستغربت أن يكون طول الموعد محدداً بشكل مسبق. حاولت أن أحادثها دون انفعال، لكنها كانت غاضبة وأشعرتني بالفعل أنني في ثكنة عسكرية. ولم أبق معها سوى بضع دقائق لأنني كنت فقط أحتاج إلى توقيعها على طلب فحص طبي من أجل التأمين، وطبعاً دفعت ثمن
الـــ موعد

طبيبي في فنزويلا قبل أن يفحص العلل الجسدية يسأل عن أحوالي وأحوال الأسرة والعمل، والوطن، وكل شيء. وعند الحديث عن مشكلة طبية فهو يدخل في تفاصيل كثيرة ويناقشني في الخيارات والحلول، ويشرح لي فوائد الدواء ومضاره. لديه صبر عجيب وهدوء داخلي مدهش وابتسامة دائمة. فعلاً أفتقد إليه خارج فنزويلا. لكني لا أفتقد أبداً إلى ساعات الانتظار خارج باب عيادته، طبعاً

حي لوس تشاغواراموس، غربي كاراكاس، بعد الساعة الثالثة
خرجت من مبنى العيادة لأفاجأ بسحب رمادية ماكرة تنتظرني، وتطرد السحب البيضاء .. يبدو أن المطر غير رأيه وأنا في الداخل، وقد يأتي. أنا أحب المطر طبعاً وأستمتع به، لكن الزحام يزداد كثيراً أثناء المطر

وفعلاً في الرابعة وسبع وعشرين دقيقة انهمرت أولى قطرات المطر. كنت لا أزال أقود سيارتي وسط الزحام مع أن الزحام عادة يشتد بعيد الخامسة وليس قبلها. لكن في كاراكاس لا أحد يفهم مزاجية الزحام. لا يوجد منطق لتفسيره ولا يوجد حتى "موعد" له

جادة فرانسيسكو دي ميراندا شرقي كاراكاس، في الرابعة والنصف
اشتد الزحام مع المطر، وخفت الضوء.. لا أعرف حقاً لم يحصل ذلك. هل لأن الناس يهرعون إلى الحافلات وسيارات الأجرة؟ ربما

الخامسة والربع بعد الظهر، بعد حمام مداري
لم أصل المكتب إلا حوالي الخامسة والربع. كانت الدنيا قد انغسلت بالكامل، وبدت لي كاراكاس فتاة للتو خرجت من حمام السوق، ندية جميلة متجددة، بلا هموم. كان المطر في آخر قطراته عندما دخلت المكتب، وكان الضوء قد عاد إلى الدنيا، نقياً هو الآخر

موعد الطبيب أكل مني إذاً جل نهاري. وهو أمر طبيعي وعادي في كاراكاس، لكني شعرت بالرضى عن نتائجه، وأحببت تجربة المطر الجميلة أثناء عودتي

من يعيش هنا عليه أن يتعلم أنه ليس ثمة "موعد" ثابت هنا. تذكرت ما روته لي مرة فتاة فنزويلية من أنها لا تواعد أبداً رجلاً واحداً في أمسية واحدة، كي لا تصاب بخيبة الأمل عندما يخلف معها الــ "موعد" ولا يرد على الهاتف، بل تواعد اثنين أو ثلاثة، حتى ينجح واحد من الـ مواعيد .. وإن وفى أكثر من واحد بالموعد، فهي تلغي موعداً أو موعدين في اللحظة الأخيرة وتحتفظ بواحد فقط 

في بلاد بلا موعد، أنت دائماً على موعد ما مع الزحام ومع المطر، ولست على يقين من أي موعد مع البشر.. وكم من البشر يلغي موعدك بحجة ذلك المطر


اقرأ يوميات فنزويلية أخرى

3 comments:

المحامي الدكتور يوسف عبد الحق said...

تحياتي ديمة
كم هو لطيف اسلوبك في حكاية الموعد، كنت حتى في حروفك صبورة وتتحدثين بنفس طويل حتى لكت أن أن اقتنع بأن التأخر في المواعيد امر ممتع رغم أنه غير منتح
قدرتك على التكيف عالية مثل قوتك في التأثير
مع التقدير والحب

Anonymous said...

لهذة الأماكن صنعت الدراجة ;)

Anonymous said...

ديمة .. مافي يوميات جديدة؟